الكاتب ـ المستشار أنس محمد الجعوان
في زمن الانكشاف الرقمي والتواصل اللامحدود ، لم تعد الخصوصية مجرد خيار شخصي، بل أصبحت ضرورة وجودية، تُعبر عن حدود الفرد، ووعيه بذاته، ومسؤوليته في حماية كيانه الداخلي من التشتت والإبتذال.
العبارة التي تُلخص هذا المعنى العميق تقول: “أنت سيد ما تُخفيه، وأسير ما تُفصح عنه”.
فما تُخفيه من أفكار، مشاعر، وخبرات، تمنحك مساحة داخلية آمنة، تتأمل فيها وتعيد ترتيب ذاتك. أما ما تُفصح عنه، فقد يتحول إلى نقطة ضعف أو أداة لتقييمك أو حتى استغلالك، إذا لم يُوجَّه بحكمة ووعي.
الخصوصية ليست انغلاقًا، بل وعيًا بالتوقيت والمكان والهدف.
أن تفتح قلبك لا يعني أن تبوح بكل شيء، وأن تشارك لا يعني أن تتعرى فكريًا أو عاطفيًا. فهناك فرق جوهري بين الصدق، وبين الإنكشاف غير المحسوب.
في بيئة العمل، على سبيل المثال، نجد أن المدير الذي يحتفظ بجزء من قراراته لنفسه، ويدير المعلومات بمسؤولية، يكون أكثر تأثيرًا من ذلك الذي يُفصح عن كل صغيرة وكبيرة بلا تروٍ. وفي العلاقات الإجتماعية، من يُحسن انتقاء كلماته ويوازن بين الشفافية والتحفظ، يحظى باحترام وطمأنينة من حوله.
الخصوصية تزرع الهيبة، وتصون الكرامة، وتُعزز التركيز.
فمن يحتفظ بجوانب من حياته بعيدًا عن أعين الناس، يعيش بحرية داخلية أكبر، ويتجنب ضوضاء التوقعات وأحكام الآخرين.
إننا بحاجة إلى إعادة تعريف علاقتنا بالخصوصية، لا كمجرد رد فعل للخوف أو الشك، بل كخيار ناضج ينبع من احترام الذات والرغبة في التوازن.
فكما نحمي منازلنا بأبواب، ونقفل هواتفنا بكلمات مرور، كذلك يجب أن نحمي عقولنا وقلوبنا وذكرياتنا، لأن أغلى ما نملك هو ما لا يراه أحد.
في النهاية، الخصوصية ليست ضعفًا… إنها قوة صامتة تحميك من أن تصبح نسخة مشاع من نفسك .